"ما رأيت إلا جميلا"

05:07

مشت ثلاثة خطوات نحوي ثم توقفت،
جثت على ركبتيها أمامي..
أبعد خصلات شعرها عن وجهها، تنهدت.. ثم قالت:"قبل ساعة كان الحلم حاضرًا أكثر من أي وقت مضى..
مشيت كان الطريق سالكًا أمامي ورغم أن السماء بعيدة إلا أنني كنت أشعر بالألفة نحوها كلما نظرت إليها..

وفي الطريق مررت على غرفة قديمة، برائحة كعك الليمون الذي تعده خالتي.. كان منظرها غريبًا كونها غرفة مستقلة لا داخل بيت ولا يحيط بها سور أو حديقة تمامًا مثل "الفقع"..
لكنه ليس موسم المطر،
فتحت الباب ضربت الرائحة أنفي..
شعرت.. لا أدري كيف أصف هذا،
لكن..
أتعرفين تلك اللحظة التي تقرر الذكرى اجتياحك بكل أسلحتها؟

الرائحة، الصوت، الرعشة.. وحتى المذاق،
تدخل إليك بجنون وكأنك الوجبة الأولى لها منذ ثلاث سنوات، وكأنه لا يليق بها أن تكون خارجك..

نظرت إلى زاوية الغرفة، رأيته..
رأيت وجهه..
كان غريبًا لا يشبه صورته التي بقيت في ذاكرتي،
وكأنه قد بهت لونها مع مرور الزمن،
ذقنه الطويل حدود وجهه، ابتسامته/الهلال..
حاجبيه،

أستطيع تصوير ما رغبت به لحظتها،
رغبت بأن أديم النظر إليه مبتسمة.. أردته أن يقرأ في عينيّ "ما رأيت إلا جميلا"،
وددت لو أنني مددت يدي إليه،
ويمسك بي..
وآخذه معي،
ونمشي معًا مرة أخرى، تحت أشجار الزيتون التي تنبت كلما قرأت لغسان كنفاني..
والأمان الذي أحسه في صوت فيروز يتشبث بنا،
وأخبره عن آخر أخباري ويخبرني عن أخباره.. وكأن شيئًا لم يحدث،
سأقول له بأنني أشتاق للشعر،

وبأنه.....
كما الشعر

كذبة جميلة..
وسحر باطل أيضًا"
كان كلامها يتقطع في آخره،
لكنني اكتفيت بالصمت والنظر هذه المرة..

15:49

حافية القدمين،
تلوذ إلى مخيلتها..
تسدل شعرها الذي ازداد طوله عن آخر مرة شبرا كاملا،
لكنه لا يزال أقصر مما كان عليه قبل سنتين،
تضع رأسها على غيمة.. والنجوم أقرب ما تكون

تلاحظ..
كان الطريق مفتوحا،
وكان الجانب الآخر يبعد مسافة امتداد رقبتها عندما يجرها الفضول،
تنزل من الغيمة وتسير على قطرات المطر،
بخطوات واسعة خاطفة..

وتردد:"يمنحني الله خفة الريشة، براءة الحمامة، وطهر الغيم.. عندما أحزن، فأعفو عنك"
تجري..
الجانب الآخر يبتعد،
المسافة لا تزيد، المسافة ثابتة..

تقفز..
تحاول إيجاد مختصر،

رقبتها لا تطول..
تراقب خطواتها
الجانب الآخر
خطواتها
الجانب الآخر
الطريق
خطواتها
الجانب الآخر
الطريق
السماء
تلتفت للغيمة
الجانب الآخر
الجانب الآخر
الجانب الآخر
-
طلعت الشمس،
تشكل قوس المطر تحت أقدامها،

تشهق!
تمد يديها..


وقعت..
-
استيقظت..
كانت تتعرق
نبضها متسارع،
تتلفت

تتنهد
تعيد نظرها للنافذة بخيبة..
تعود للنوم

19:38

ولأن عصفور قلبها قد طار أخيرا،
شعرت بالخفة.. وأحست بأنها -بتبخترها على طرف الحلم- طاووس قد جمع الحسن على ريشه..

تكثفت أهدابها وتوسعت عينيها
طالت رقبتها، وتقوس خصرها أكثر..

وأمتد فستانها -الذي حاكته أوهامها الحلوة- من الليل حتى طلوع الفجر..
ملتفا على جسدها، مثل ضمة طفل..

ولوهلة شعرت بأن وجهها قد جمع الشمس والقمر،
وبأن خطوها مثل خطو غزال يتفتح من تحته الزهر..

-
غاب كل شيء،
وانطفأ القمر..
كانت تدور في غرفتها،
وفي اللحظة التي مس نور الشمس جسدها
همست وقد تكسر الكلام بين شفتيها
"لا أدري.. لا أفهم"

ترك الليل ظله تحت عينيها.. وهرب

14:57

"غرفتها"
المكان الوحيد الذي تستطيع فيه أن تتحدث مع ظلالها وترى خيالاتها وتترحل وتستضيف أشخاصا وتسمع صوت الراوي وهو يتحدث عنها.. ويصف حاجبيها الغير متشابهين، كعلامة فارقة تبقى في ذهن القارئ..

تفتح باب غرفتها..
تزدرد ريقها
تغلقه بإحكام خلفها، تستحضره فيأتي..
تشيح بوجهها عنه، لأنها لا تريد أن تراه،
ترتعش يديها،
رائحة الشمعة التي تعبر فتحات وحدة التبريد من الغرفة المجاورة تخترق أنفها..

لا ساعة في غرفتها،
يعبر الستائر ضوء أصفر تعرف من خلاله بأن السماء تستعد لاستقبال حمرة الشفق..

تتجرأ..
تتقدم خطوة،
ترفع رأسها
تنظر في عينيه..
طوال الأربعين يوما كانت تحاول أن تبقيه في الخلف.. واستطاعت ذلك،
رغم أنه كان حاضرا.. مثل ظل..

تسير عبر عروقها كل الشتائم.. بكل اللغات حتى تلك التي تجهلها
لا تخرج منها،
تبقى في الداخل تتمدد حتى يديها..

تلتفت تتأكد بأنها قد أحكمت قفل باب غرفتها -ذهنها مشتت دائما-،
تمسك بجهازها تضع السماعات على رأسها، وتصغي لموسيقا صاخبة،
تستجمع قواها.. تغلق عينيها
تأخذ نفسا عميقا،
تفتحهما..
يخفق قلبها بشدة يتجمع الدم إلى وجهها.. يحمر وتشعر بحرارته،
تقبض يديها بقوة
تضربه،
تركله..
تمزقه،

كانت تراه بينما تضرب وسائدها.. الهواء.. وكل ما بوسع مخيلتها أن تحيله إلى هيئته،

تخور قواها،
تسقط نفسها على فراشها،
تتنهد..
تتخدر..
تتمدد المساقة بين انقباضات قلبها وانبساطاته،
ترخي يديها

تتلحف عينيها بأجفانها مثل صبي يؤمر بأن يغلق الستائر لكنه لا يريد أن يفوت المشهد،

تأتي إليها صورتها قبل لحظات، تسير أمام عينيها..
تنظر للوسادة، والهواء الذي أبرحته ضربا..


تضحك

Popular Posts